من منا لم يلاحظ غياب ثقافة حب الحياة وصناعة الفرح ؟ فنحن مجتمع يرث الحزن جيلا بعد جيل ليشوه الفرحة ويصادر البهجة ، ولم أجد لذلك سببا غير الدين ، فالمذهب الشيعي ( وبالتحديد الإثنا عشري ) مثلا ، مذهب جنائزي بامتياز ، يشع بثقافة الموت بشكل رهيب ولافت ..
لا وجود لثقافة الحياة والفرح والبهجة في أدبياته ..
فهو يطغى على بقية المذاهب الإسلامية في ذلك ، وإن كانت هي أيضا تفتقر لثقافة الفرح وخلق السعادة ..
فهو يتفنن بطقوس الحزن والبؤس واليأس ، حتى بات الجزع مستحبا ، وكذلك الصراخ والعويل والنياح واللطم والنحيب ، لتصنع بذلك مجتمعا لا يعرف كيف يفرح ! بينما طقوس ومظاهر الفرح والبهجة والأمل تحيطها الشبهات والتحريم والتوجس ، فالرقص حرام ، والغناء حرام ، والاحتفال غير جائز إلا بضوابط صارمة تسلب منه المتعة والجمال ، وإلا فهو حرام أيضا ..
أفراد يتجهزون بالأكفان ، ويتلذذون بتجارب الموت وأجوائه البائسة ، قال لي أحدهم ذات مرة : أنا أعرف كيف ألطم لكن لا أعرف كيف أرقص !
وأحدهم كان يداوم بين فترة وأخرى على زيارة المقبرة للجلوس بجانب قبر مفتوح ليستشعر لحظة دخوله فيه بعد وفاته ! وينقل أحد أقربائه بأن هناك من تجاوزه بالطقوس ليكفن نفسه ويجرب الاستلقاء داخل القبر ! بينما آخر وفي فترة خطوبته قرر أن يكون أحد مشاريعه بتلك الفترة الخاصة ، زيارة رومانسية من نوع آخر بصحبة الخطيبة للمقبرة ، لتذكر الموت وعدم التمسك بهذه الحياة الفانية !
بالإضافة إلى بعض الظواهر الاجتماعية ، كأن يخاف أحدهم أو يتشاءم من جلسة ضحك ويدعو الله أن يكفيه شره ، أو بعض الروايات التي تصور القلوب الحزينة على أنها أقرب إلى الله من القلوب الفرحة ، وكذلك هناك من يتعفف عن الفرحة لسوء فهم ربما لما جاء بالقرآن (لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين) وتخيله للفرح بأنه يتناقض مع المروءة أو الحشمة و الوقار ..
فلم يعد عجيبا أن تجد هناك من يتهامس الناس حوله سرا ، أنه إنسان تافه لأنه دائم الفرح ولا يعيش الغم والحزن !
لقد أغرق المجتمع بأجواء الحزن وسلوكياته والتعبير عنه ، ولم يعد قادرا على ممارسة الفرح أو صناعته ، ويعجز عن خلق حالة من البهجة والتفاؤل وحب الحياة ، فإما أن يفرح من خلال الإساءة للآخرين ويجد فيها الفرصة للتنفيس عن ما يرثه من بؤس ويأس ، وإلا لا يعرف كيف يعيش الفرح الرسالي أو التعبيري الخالي من الإيذاء أو الضرر . أن تجعل من الحزن طقسا مقدسا وتطلق لصناعته العنان بلا ضوابط ، وتحرم طقوس الفرح إلا بحدود ضيقة ، يعني أن تصادر ثقافة كاملة من حب الحياة وسلوك السعادة والأمل والتفاؤل ، الشعوب الحية تصنع الفرحة من أبسط الأمور ، وتلون حياتها بأجمل وأزهى الألوان ، لتورث تلك الثقافة والصناعة والبهجة بألوانها لأجيالها اللاحقة ، بينما الشعوب الميتة تتفنن بصناعة البؤس والحزن ، وتختار السواد لونا تطمس فيه حياتها ، لتنذر نفسها للحداد الدائم وتورثه بسواده لجيل بعد جيل !
فهل يحق لنا أن نرفض كل هذا الكم الهائل من طقوس الحزن والبؤس واليأس ؟ واستبدالها بطقوس البهجة وحب الحياة وصناعة الفرح ؟