من المألوف أن يكون شيوخ الدّين ورجاله متصدين لجميع أشكال الوصاية ولا سيما الاجتماعية ، مصادرين بذلك كل رأي لا يحوز على رضاهم أو لا يلبي متطلباتهم التي ينسبونها إلى الله سبحانه . لكن اللافت للنّظر هو نمو فئة جديدة في الوسط الاجتماعي وتفرعنها ، لا تختلف عن الأولى بالآلية ومنهجية التعامل ، ويمكن وصفهم بشيوخ الثقافة ورجالها !
فهؤلاء بكل عنجهية وغطرسة يعتبرون أنفسهم الناطق الرّسمي باسم الثّقافة ، وأصحاب الحق المطلق في إعطاء شهاداتها للآخرين ، فهذا حسب تصنيفهم مثقف حقيقي ، أما ذلك فهو متثيقف مزيف ! لا يختلفون عن أولئك بطرح تساؤلهم الشّهير لكل من يفتح فمه : ومن تكون حتى تقول !؟
فيا شيوخ الثّقافة اطمئنوا ، هنيئا لكم الألقاب والمسمّيات وكلّ أشكال الثّقافة ومظاهرها ، فوحدكم المثقفون الحقيقيون ، سواكم ما هم الا فقاعات عابرة ، فهم طلاب شهرة لا أكثر ، بعكسكم أنتم ، فلمَ التعليق عليهم أو إشغال أنفسكم بهم !؟ إنّهم سطحيون يطرحون آراءهم بعيدا عن التّعقيد ، ويتجنبون الأساليب والمصطلحات المبهمة التي تتشدقون بها ، لا يتبنّون الطّرح الصّعب واللا مفهوم الذي كلما استوعبه عدد أقل اعتبرتم ذلك مقياسا لقوته وعمقه ! إنهم تافهون يتحدثون بأمور تلامسهم مباشرة أو تضغط عليهم اجتماعيا ، ولا يشغلون أنفسهم بالطرح النّخبوي فلسفيا وعلميا مع الكثير بصفصفة الأسماء ككارل بوبر وشوبنهاور وهيجل ونيتشه وغيرهم ، بالإضافة لاستغنائهم عن جرعة مصطلحات لاتنية يمكن الاستعراض بها ! فتركوها لكم يا من قرأتم دون غيركم كلّ الكتب والأفكار ، القديم منها والحديث ، لتنطلقوا من رؤية "أبستمولوجية" وأساس "أنطولوجي" ، فليس لأحد غيركم أن يفهم "الأنثروبولوجيا" ويغوص فيها ، فسواكم ما هم إلا سفهاء معتدون يهرفون بما لا يعرفون !
لكن كم هو مؤسف حقاً أن نجد في مجتمعنا المتاجرة بالثقافة والمعرفة وحتى الحقوق ، كشكل آخر حي كما المتاجرة بالدّين ، لتصفية الحسابات وتعزيز المصالح الشّخصية والفئوية ! أو أن يكون قدر مجتمعنا هو الانتقال من وصاية لأخرى ، ففي سبيل التّخلص من الوصاية الدّينية وحراسها الأشاوس ، نجد الوصاية الثّقافية بحراسها المتعجرفين الذين لا يرون لغيرهم أي قيمة أو اعتبار إلا إذا كانوا تحت وصايتهم ، فهم لا يرون إلا نفوسهم المتضخمة في دواخلهم حد الانفجار !
لكم أن تخففوا من روعكم وتهجمكم ، فهناك من لا تعنيه تصنيفاتكم ولا تغريه مصطلحاتكم ولا فذلكتكم ، إنّما يريد أن يكون إنسانا صادقا مع نفسه ، يحلم بغد أفضل ويسعى إليه ، يعيش تجربته كما هي ، بعيوبها وحسناتها ، بعيدا عن التّنظير وبعيدا عن التعقيد وبعيدا عن فوقيتكم الزّائفة ، تشدقوا بعقدكم وتعقيداتكم وكل ما يتوهم لكم أنه عمق ، وتباهوا بما لديكم كما يحلو لكم ، فالفضاء يتسع للجميع ولن يمنعكم أحد من ذلك ، لكن اتركوا غيركم ليكون نفسه ويعبر عنها ، دون أن تسقطوه وتحتقروه وتستصغروه لمجرد أنه حاز على شيء ما رغم بساطته أكثر منكم ! فمعذرة ؛ لكن لم يزاحمكم أحد بمقاهيكم وأبراجكم العاجية ، فلا تستكثروا فسحة ما ، توفرت لأحدهم ليعبر من خلالها عن نفسه ، وعن مرحلته الفكرية والمعرفية والوجودية ، بعيدا عن حساباتكم التي منعتكم من صدقكم مع ذواتكم ، وجعلت من مكاسبكم الثقافية قناعا تسترون به قبح حقائقكم وخبث تناقضاتكم ، ليسقط عند أبسط المواقف ، كاشفا عن نفاقكم وانحيازكم وسوادكم الإنساني !