السبت، 26 مارس 2016

العمامة الذكية


لعل الدين كان في يوم ما يعالج توليفة من العلوم الإنسانية والفلسفية والطبيعية ، وكان النضج العلمي والتأصيل الفكري في المجتمعات يعتمد على رجال الدين ، ولكن مع تقدم المعارف والعلوم أصبح البشر في المجتمعات المتحضرة المعاصرة يعلمون أن الدين ليس مسألة علمية ولا مصدراً للأفكار والتقدم المعرفي والعلمي ، كما إنه غير مناسب لتسيير أمور البشر المعاصرين ..

ورجل الدين هناك مجرد واعظ لا يرقى إلى تسميته بالعالِم كما في بقية المجتمعات المتخلفة ، التي لا تزال تنظر إلى رجال الدين على أنهم علماء ينطلقون من تأصيل فكري عميق وقاعدة علمية متخصصة متينة وموضوعية !

ونتيجة الجانب المتخلف في عقلياتنا فقد عظّمنا الأمور المعقدة وغير المفهومة بالنسبة لنا ظنا منا أن ذلك هو معيار عمق المواضيع وأهميتها ، أوهمنا رجال الدين أن الدين مسألة معقدة وعميقة جداً لم يتمكن أحد من فهمها إلا رجال الدين وحدهم ، مما سمح لهم بالهيمنة على مجتمعاتنا إلى حد الاستغلال في الكثير من الحالات ..

فالإسلام كمثال ، لم يأت سوى بكتاب واحد فقط !
كان واضحا وسهلا ومفهوما لأبناء ذلك العصر ، ونقرأ كيف أقنع بكلماته الفقير قبل الغني والفلاح قبل التاجر والبسيط قبل أكابر القوم ، والصغير والكبير رجلا كان أو امرأة !

لكننا نجد اليوم كيف أن رجال الدين طوروا الآلاف من الكتب والمؤلفات والمجلدات التي امتلأت بالتعقيد والتناقضات وإفساد المنطق حتى اختلطت إرادة كل مؤلف وأمنياته الشخصية مع طبيعة الدين وكتابه الوحيد !


ولكن مع انفتاحنا على القفزة الهائلة التي حصلت في العلوم الإنسانية وغيرها ، في مقابل الجمود الديني وتخلفه ، تولدت فجوة عميقة بين الخطاب الديني وبقية العلوم والمعارف وتحولت إلى أزمة حقيقية لم يستوعبها رجال الدين على ما يبدو !

أولئك الذين يتعاملون مع المجتمع بالطريقة ذاتها قبل مئات السنين ، كما لا يزالون يعيشون الفلسفة والعلوم من عهد أفلاطون وأرسطو وابن سينا ، أو من خلال بعض الانتقاءات المنحازة والمنقوصة من دراسة علمية حديثة هنا أو هناك في أحسن أحوالهم !

وبطبيعة الحال لا أحد يريد إقصاء رجال الدين من مجتمعاتهم ، تماما كما هو غير مقبول أن يقصوا أحدا بالمقابل !
لكنهم صدقا بحاجة إلى تحديث عاجل وضروري يعطيهم مكانتهم وحجمهم الحقيقي ؛ كفئة يمكن الاعتماد عليها بدلا من بقائها كعائق في عملية بناء مجتمع متحضر ومتقدم قادر على خدمة البشرية بالإبداعات والإنجازات والعطاءات ..

هم بحاجة إلى عمامات ذكية تسمح لهم بالتصالح والتكامل مع العصر ، وتفهمهم أن استيعاب البسيط العميق أولى من المعقد السطحي والمنحرف عن الهدف ، بحيث أن الدين والتدين ليسا بذلك التعقيد الذي يطرحونه بالمؤلفات والحلقات والأفكار والمعتقدات والواجبات ، فهو حاجة نفسية خاصة يعيشها الفرد بينه وبين علاقته مع الكون والغيب ، والهدف منه خدمة حياة الناس وتيسيرها بشكل يتواءم مع زمانها بلا مقدسات عائقة ولا ثوابت رجعية تشكل عبئا وثقلا ..
والأهم أنه لا يمكن لأحد منهم أن يأخذ دور الإله في هذه العلاقة الخاصة ، وأن لا مقدسات في العلاقة مع الغيب !

وليس عيب أن تتعلم تلك العمامة الذكية من التجربة الدينية التي عاشها الآخر المتحضر ، حيث يقدر اليوم في أوروبا -كمثال- وفقا لبعض الإحصاءات ، أن ٨٪ فقط يعيشون حالة من الالتزام بالذهاب إلى الكنيسة لغرض التعبد ، التي أغلقت مثيلاتها ، فيما تم تحويل بعضها إلى متاحف أو صالات عرض يمكن الاستفادة منها في مجالات أخرى !

وذلك يعكس حجم المكانة الدينية المعاصرة ، بالنسبة لمجتمعات كانت في أقصى حالات التدين تاريخيا !

العمامة الذكية ستقرأ المستقبل وتعرف أن التجربة البشرية المتحضرة والأكثر تقدما هي ذاتها ، وإننا نسير من حيث ساروا ..
وعليها تقديم خطابا دينيا معاصرا يتبنى منهج المحبة والسلام والتسامح إلى أقصى حد ، بعيدا عن الاستغراق بالتاريخ وحقبات الماضي ، وبعيدا عن خطاب الترهيب والتعقيد والعنف والكراهية وامتلاك الحقيقة !