الاثنين، 27 فبراير 2017

المثلية الجنسية تفضح جهلنا !

أجريت استطلاعا عن طريق حسابي في تويتر عن الميول الجنسي للأفراد ذكورا وإناثا في مجتمعاتنا ، هل هو ميول جنسي مغاير بمعنى الانجذاب للجنس الآخر ، أم ميول جنسي مثلي بمعنى الانجذاب لنفس الجنس ، أم مزدوج الميول بمعنى الانجذاب لنفس الجنس وللجنس الآخر معا ؟
 وقد شارك فيه أكثر من أربعة آلاف شخص وكانت النتيجة أن 20٪ هم من مثليي الجنس ، و 22٪ من مزدوجي الميول الجنسية ، و 58٪ هم من المغايرين جنسيا ، وذلك يعني أن 42٪ من المجتمع ينجذب جنسيا لنفس جنسه وقادر على إقامة علاقة مثلية متكاملة دون أن يقرف أو يشمئز منها !

موضوع المثلية الجنسية من المواضيع الحساسة والمسكوت عنها في مجتمعاتنا على الرغم من وجودها لدينا بنسبة لا يستهان بها إطلاقا ، فنسبة وجودهم بمجتمعنا أعلى من نسبة وجود الشيعة في السعودية بل وأعلى من نسبة الشيعة عالميا على سبيل المثال !
والمثلية موجودة كذلك في بقية المجتمعات الغربية والشرقية على حد سواء وعلى مر الأزمان !
فقضية المثليين قضية لا تقل أهمية عن أي قضية تخص الأقليات الأخرى في العالم سواء أقليات دينية أو عرقية أو جنسية ، ولا مجال للاستخفاف بطرحها أو التقليل من شأن وضرورة الالتفات إليها .

والتطرق الخجول لها لا يقدم شيئا ، إن نبذها وتحقيرها يقدّم بشكل تقليدي يركز على مخالفتها الفطرة السليمة ، وإنها من الكبائر المحرمة شرعا ، وغير ذلك من مبررات الاسطوانة التقليدية المعروفة ..
ولا زلنا من المجتمعات التي تعتقد بأن المثلية مرض من الأمراض التي يتطلب علاجها بأي شكل من الأشكال ، على الرغم من تعمد إزالتها من قائمة الأمراض وعدم تصنيفها كمرض منذ سبعينيات القرن الماضي إلى أن أقرت ذلك منظمة الصحة العالمية في التسعينيات ، بل تم اعتبار أن الهوموفوبيا هي المرض وليست المثلية ، نتيجة التقدم الطبي والعلمي بناء على المعطيات الحديثة والدراسات النفسية والاجتماعية العديدة في هذا المجال ، كما أظهرت الأبحاث أن الميول الجنسية المثلية شكل من أشكال التنوع الجنسي الطبيعي والإيجابي بين البشر ، وأنها لا تشكل أثرا سلبيا على الإنسانية ، بل محاربتها هو الذي يحمل آثاراً سلبية قد تكون كارثية !

ومن ناحية حقوقية فإن قضية المثليين من أهم القضايا المعاصرة في مجال حقوق الأقليات والعدالة والمساواة ، وتم اعتبار حقوق المثليين من الحقوق الإنسانية الأساسية حسب منظمة العفو الدولية ، بالإضافة لصدور قرار من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بدعم حقوق المثليين كحقوق إنسانية ومدنية على مستوى العالم ، ووقعت عليه غالبية الدول الأعضاء التي بدأت مجتمعاتها تسن القوانين لصالحهم وتجرم التحريض عليهم وتعتبر التمييز العنصري ضدهم جريمة من جرائم الكراهية ، مما ساعد على تحسين حياتهم وقدرتهم على تكوين علاقات عاطفية متكاملة باستقرار اجتماعي ونفسي وعاطفي لا يختلف عن بقية البشر المغايرين ، ومنهم العديد من الناجحين والمبدعين والمتألقين في عدة مجالات كالفن والعلوم والإعلام والرياضة والسياسة وغيرها ..
وفي المقابل اعترض على ذلك القرار أقلية لا يستهان بها ، غالبيتهم ينتمي للدول العربية والإسلامية وغيرهم من المجتمعات التي تمتاز بالجهل والتخلف والاضطهاد الإنساني العام ..

فلا زلنا إلى اليوم كمجتمع ندفع المثليين والمثليات على ممارسة مثليتهم بطرق غير آمنة أو مشبوهة . مما يشكل خطورة على صحتهم وإيذاء لنفسياتهم أو تدميرا لأخلاقهم أو استغلالا لهم بشكل بشع لا يخلو من تحقير أو ابتزاز أو تنمر ، من خلال إجبارهم على كبت مشاعرهم وتوجهاتهم الجنسية وكتمانها ، وإرغامهم على العيش بالتظاهر وكأنهم مغايرون حتى في الزواج !
فكم من شاب تزوج من فتاة مثلية لأنها مضطرة لأسباب وتعقيدات اجتماعية ولا يمكنها أن تبادله ما يريده من عواطف ومشاعر وحياة جنسية ، ليقع الزوج في دوامة من التساؤلات والشك بالنفس لتصبح علاقتهما تدميرا للأحلام والآمال وأشبه بالمأساة التي لا تخلو من آثار سلبية كارثية على الطرفين ، أو العكس !

أولئك لم يأتوا من الفضاء ولا يعيشون خارج مجتمعاتنا ، هم إما أخوتنا أو أخواتنا ، أبناؤنا أو بناتنا ، أقرباء لنا وأصدقاء أو معارف ، جيران أو زملاء !
يعيشون بيننا بمعاناتهم وبألمهم في مجتمع يحتقرهم لمجرد تعبيرهم عن ميولهم الجنسي أو ممارسته ، وبرمجة دينية على تأنيبهم الدائم لضميرهم وشعورهم بالعار وعيشهم بدوامة من الحيرة والقلق والاكتئاب واللوم والاعتقاد بأن الله يكرههم وسيعذبهم أشد العذاب أو أنهم مرضى مثيرون للشفقة بأحسن الأحوال ، ليكون كل ذلك حاجزا يمنعهم من التصالح مع أنفسهم أولا ، والاندماج في مجتمعاتهم دون تخفي أو كتمان ثانيا ..

لا أبالغ إن قلت إن المثليين هم أكثر أقلية مسالمة ومضطهدة ومسلوبة الحقوق والتقدير والاحترام في مجتمعاتنا ، ويتم تشويهها واحتقارها والإساءة إليها والتحريض عليها وممارسة التمييز العنصري ضدها بشكل ممنهج بالرغم من أنها مكون أساسي من نسيج المجتمع ، لا لشيء سوى الجهل الشديد بحقيقة المثلية من جميع النواحي ومن كل الأطراف حتى أولئك الذين يتشدقون بالإنسانية وتقبل الاختلافات الفردية أو المحسوبين على المعرفة والثقافة وسعة الاطلاع !

إما بربطها بالإيدز والأمراض الجنسية بكل جهل ودون اعتبار لتطور وسائل الحماية والاحتياطات في الاتصال الجنسي المطلوبة في العلاقات المثلية أو المغايرة على حد سواء ، أو رفض المثلية بحجة أن الحيوانات بدون عقل ومع ذلك تترفع عنها ولا تمارسها ، بينما تلك حجة ساقطة أساسا لعدة أسباب ولا داعي لمناقشتها ، أهمها أنها عبارة عن ادعاء كاذب لأن المثلية موجودة بين الحيوانات وتمارسها وكون هناك من يجهل ذلك لا يعطي قيمة للاستشهاد بالحيوانات على رفضها ، أو أن يتم طرحها كعلاقة جنسية بهيمية وليست إنسانية دون اعتبار للحب والمشاعر والعواطف وكأن العلاقات المثلية مجرد جنس !
أو أن يتم خلطها دون مبرر بقضايا التحرش أو الاغتصاب وممارسة الجنس مع الأطفال أو مع الحيوانات ، دون أدنى اعتبار لمبادئ أساسية لا تختلف مخالفتها بين العلاقات المثلية أو المغايرة ، كالأهلية والموافقة بين الطرفين لممارسة الجنس أو تبادل الحب والمتوفرة بالعلاقات المثلية ، وغائبة تماما مع الأطفال أو الحيوانات وحالات التحرش والاغتصاب ، وكذلك عدم استيعاب فكرة أن المثلية كميول جنسي تختلف عن الهوية الجنسية وليست خيارا ولا هي خاضعة للإرادة  وغير قابلة للتحويل أو التغيير ، فحالها حال الميول الجنسية المغايرة ، وكما أن المغاير لا يمكنه أن يجد نفسه بعلاقة مثلية بل قد يقرف أو يشمئز منها ولا يقبلها على نفسه ، كذلك المثلي تماما مع العلاقة المغايرة ..
كما أن منحهم حرياتهم وحقوقهم لا يعني فرض ممارسة المثلية على الجميع ، فمثليتهم على أنفسهم وللمغايرين حياتهم كما هي ..

وما يجعل الموضوع أكثر تعقيدا هو ثقل الموروث الديني وقداسته بفهمه التقليدي تجاه المثليين والذي يهدر دمهم ويبيح قتلهم ويدعو لإبادتهم بأبشع الطرق وأكثرها وحشية وتناقضا مع الرحمة والإنسانية ، في مجتمع يقحم الدين كمعيار في كل شيء تقريبا !
على الرغم من وجود توجهات دينية حديثة بدأت بالتصالح مع المثلية لصالح الإنسان بعيدا عن الجمود الديني وتقديس أحكامه التي تعود لقرون ماضية فيها اختلاف بالظروف البشرية ومستجداتها وتقدمها الحقوقي والمعرفي ، وتوافقا مع فكرة العدالة الإلهية ورحمته الواسعة وأنه لا يمكن لدين سماوي يمثل الرحمة والإنسانية أن يقف ضد فئة مسالمة من البشر دون أن يكون لهم مكان فيه ، سواء بعض الكنائس المسيحية وكذلك بعض الآراء الإسلامية في الغرب ولكن ليس لها أي حضور أو قبول في مجتمعاتنا العربية لحد الآن ..

أعتقد أن قبول المثليين والاعتراف بحقوقهم سوف يرفع القيمة الإنسانية في مجتمعاتنا ويعزز التنوع واحترام الاختلاف بغض النظر عن الميول الجنسي للفرد ومظهره ، كما أنه يحمي المغايرين ذكورا وإناثا من التورط بالزواج من المثليين كونهم متخفين ولا يملكون خياراً اجتماعيا آخر للعيش في مجتمعاتهم !
فيبقى المثليون للمثليين والمغايرون للمغايرين ، ولا يجبر أحدهم الآخر على ممارسة ما لا يقبله ، ويتحمل كل طرف ما يترتب على ميوله الجنسي من تبعات طالما الخيارات متاحة أمامه ، وله حقوقه في تسهيل حياته ، ومتطلباتها متوفرة ومقبولة اجتماعيا وقانونيا وطبيا بناء على ذلك الميول !
كالحماية أو العلاقات الاجتماعية أو الحب أو الزواج أو التبني أو الإنجاب بالتلقيح الصناعي ..الخ 

نحن بحاجة لحملة توعية إعلامية مكثفة لإعادة النظر إنسانيا واجتماعيا وقانونيا ودينيا ومعرفيا بهذا المجال ، لأن قضية المثليين قضية إنسانية محقة قبل أي شيء آخر ، والمثلي إذا لم يكن أنت فقد يكون ابنك أو ابنتك أو أخوك أو أختك أو قريبك أو قريبتك أو أي من معارفك وزملائك وأعزائك ، لكنه لا يستطيع أن يبوح لك بمعاناته وألمه خوفا من القتل أو الرفض والنبذ والتحقير والإقصاء !

وليس الهدف من ذلك دعوة الجميع لممارسة المثلية أو نشرها لأن ذلك أمر غير واقعي وغير مطلوب أساسا ، فالمثلية ليست دين أو معتقد يمكن الدعوة إليه أو نشره واعتناقه ، ولا فكرة يمكن الاقتناع بها وتطبيقها ، هي توجه وميول جنسي وعاطفي لا إرادي لا يمكن تبديله أو تحويله ولن يؤثر السماح لصاحبه بممارسته والعيش من خلاله على توجه المغايرين ، الذين سيبقون كما هم بتوجهاتهم الجنسية وحياتهم وتكاثرهم ، ولن يؤذيهم أو يعتدي عليهم أحد ولن يتم إجبارهم على ممارسة المثلية كما يتوهم بعضنا !

وكما إن دعمك لحقوق المرأة لا يعني بالضرورة أنك امرأة ولن يجعل منك كذلك إذا لم تكن أساسا امرأة ، وكذلك دعمك لحقوق الطفل لا يشترط كونك طفلا ولا يجعلك كذلك ، وأيضا بالنسبة لدعم حقوق الحيوان وغيرها من القضايا ، كذلك دعم حقوق المثليين لا يشترط أن تكون مثليا ولن يجعلك كذلك لمجرد دعمهم ، فالقضية قضية إنسانية وحقوقية ، وغالبية المجتمعات التي أعطت المثليين حقوقهم وصوتت لصالحهم كانت غالبية مغايرة وليست مثلية !

بتصوري حان الوقت للاعتراف بحقوق المثليين وكرامتهم وتقديرهم وإنسانيتهم ، وعدم الاستخفاف بهم أو بقضيتهم وكأنها أمر هامشي أو مستورد ولا يعنينا ، هم شريحة منا وفينا لا يستهان بها تعيش بيننا حياة بائسة لا تناسبها أسوأ وأقسى الظروف والخيارات التي تدفعها لأسوأ الاحتمالات ، فإلى متى نبقى خارج الزمن بجهلنا ونستمر في ظلمهم ونبذهم وكراهيتهم واضطهادهم وسلبهم أبسط حقوقهم والشعور بالعار منهم وتعقيد حياتهم ونفسياتهم وإرغامهم على التخفي عوضا عن قبولهم !؟



ملاحظة : استطلاعات تويتر تعطي مؤشرات سريعة ولا تمثل بحثا علميا أو دراسة علمية ، لذلك هي لا تغني عن الدراسات والإحصائيات المختصة ، مع الأخذ بعين الاعتبار معايير اختيار العينات لتعطي نتائج أكثر دقة كلما كانت العينة أوسع وأشمل وخاضعة للمعايير العالية التي تطلب جهدا أكبر ..

السبت، 21 يناير 2017

حقوقيو الغفلة !

يحصر الحرية بمواجهة السلطة السياسية فقط ، وإذا حدثته عن السلطة الاجتماعية أو الدينية أو الثقافية واستبدادها يقول إنه لا وجود لذلك التسلط في مجتمعنا ..
وحين تقول له إن المجتمع آذى من اختلف عنه حين عبر عن ذلك الاختلاف !

يقول أولئك قلة وهم من وضعوا أنفسهم بمواقع الشبهات ، فلا يمكنك أن تنزعج اجتماعيا إلا في حال استفزازك للمجتمع أو خروجك عنه وعن عاداته وأعرافه وتقاليده وقيمه الثابتة ، كل من يراعي المجتمع يعيش بحرية وسلام ولا يتأذى ولا .. إلخ ، فعليهم أن ينضجوا ويكفوا عن الشكوى والصراخ والمطالبات الطفولية ..
كما إن المجتمع لا يسجن ولا يحبس ، وما أحلى الرفض الاجتماعي بالمقارنة مع ذلك ، فأنت لم تجرب !

ولكن بالمقابل وحسب ذلك المنطق الأعوج :
السلطة السياسية كذلك لم تعتقل إلا قلة بالمقارنة مع مجموع الشعب ، وهم لولا إنهم وضعوا أنفسهم بمواقع الشبهات واستفزازهم للسلطات وخروجهم عن اعتباراتها وأدبياتها لما سجنوا ، ومن يراعِ السلطة السياسية يعش بحرية وسلام ولا يمس بأذى ولا .. إلخ ، وعليهم أن ينضجوا ويكفوا عن الشكوى والصراخ والمطالبات الطفولية .
سياسيا قد تكون في السجن لكن حياتك في أمان ، وقد تنسج من خلال السجن علاقات مختلفة وتتعلم تجارب جديدة بالإضافة إلى التعاطف خارجه ، وقد يكون ذلك أخف وطأ مقارنة بالنبذ والتسقيط والتشويه حتى من أقرب الناس إليك ، وكل الضرر النفسي والمعنوي وحتى المادي الذي يلحق بك لمجرد اختلافك وتعبيرك عن ذلك الاختلاف ، فأنت لم تجرب ذلك !

من يقبل بالحالة الأولى حتى لو لم يشارك بها ويرفض الثانية فهو ازدواجي ومتناقض ، وإذا شارك بالأولى فهو أحمق ساذج أو خبيث غادر حتى لو رفض الثانية ..

شخصيا أرفض الحالتين ومع الحرية والحقوق كمبادئ أساسية ، وقد يكون الفرق إني أعتبر الحقوق والحريات الفردية في المجتمع هي أساس تكوين الحقوق والحريات السياسية وليس العكس ، لأنه لولا الأولى لا يمكن للثانية أن تتحقق مهما تبدلت الشخصيات أو تغيرت الحكومات ، لأن التسلط والاستبداد في عقولنا وشخصياتنا وثقافتنا وتربيتنا ومجتمعاتنا قبل أي شيء آخر ، وأكثر تعقيدا من اعتقال هذا أو حبس ذاك ..

لا يمكن الوثوق بمن يتحدث باسم الحقوق والحريات والأخلاق  .. إلخ ، وهو أول من ينتهك كل ذلك بمجرد حصوله على الفرصة ضد خصومه !

كلامي مقصود وموجه لفئة محددة تعيش بيننا وترفع شعارات العدالة والحرية وهي لا تقل استبدادا وتسلطا في عقولها وشخصياتها ، وأقول لهم :
كفاكم انتفاخا وفوقية وعنجهية وغطرسة ومزايدة فارغة على الآخرين ، أنتم تحصرون الحرية والحقوق بحدود ضيقة على مقاسكم وتنتهكون مبادئها ، وتمجدون تشوهات اجتماعية بشعارات رنانة وكاذبة لا تعكس حقيقة مواقفكم العوجاء !

الأحد، 15 يناير 2017

بين العدالة والأخلاق

ماذا لو طرح عليك المثال الفلسفي الكلاسيكي المتعلق بالأخلاق والعدالة !؟
 حيث يحملك الخيال إلى إنك طبيب في غرفة الطوارئ بأحد المستشفيات وأدخلوا عليك ستة أشخاص مصابين بحادث سير مروع ، إصابة خمسة منهم متوسطة والسادس إصابته خطيرة وقد تحتاج إلى اليوم بأكمله للعناية به ، ولكن بتلك الحالة سيموت الخمسة ، أو يمكنك معالجة أولئك الخمسة ولكن أثناء ذلك سيموت السادس صاحب الإصابة الخطيرة ..
هل ستنقذ الخمسة وتضحي بالسادس ؟
أم إنك ستنقذ المصاب صاحب الحالة الأخطر ؟

عرض ذلك المثال على مجموعة من الطلاب في جامعة هارفرد في مقرر العدالة ، وأجاب الغالبية العظمى بأنهم سوف ينقذون الخمسة ويضحون بالواحد ، وعللوا إجابتهم بأن التضحية بحياة واحد مقابل إنقاذ حياة خمسة أشخاص عمل أكثر أخلاقية وعدالة !

تم تعديل المثال الافتراضي على إنك طبيب جراح متخصص بزراعة الأعضاء ، ولديك خمسة مرضى جميعهم بحاجة ماسة إلى زراعة عضو من أجل البقاء على قيد الحياة ، الأول بحاجة إلى قلب والثاني بحاجة إلى رئة والثالث يحتاج كلية والرابع يحتاج كبداً وأما الخامس بحاجة إلى بنكرياس ، وليس لديك أي متبرعين بأعضائهم ، وبهذه الحالة أنت على وشك أن تراهم يموتون أمامك واحداً تلو الآخر !

ولكن تتذكر أن في الغرفة المجاورة شاباً سليماً معافى وبصحة جيدة جاء لعمل فحوصات طبية روتينية ، ويأخذ قسطا من الراحة ، ويمكنك تخديره بهدوء وأخذه لانتزاع الأعضاء الخمسة منه لتزرعها بأولئك المحتاجين ، صحيح إن الشاب سيموت ولكنك ستنقذ حياة خمسة أشخاص آخرين بالمقابل ..
فهل ستقوم بفعل ذلك ؟
إذا كانت إجابتك نعم ، فهل ستبقى موافقا حتى لو كان ذلك الشاب هو أحد أقاربك ؟
تلك المجموعة من الطلاب أنفسهم الذين أجابوا في المثال الأول إنهم سيضحون بحياة واحد لإنقاذ حياة خمسة آخرين ، رفضوا التضحية بحياة الشاب في المثال الثاني لإنقاذ حياة الخمسة حتى لو لم يكن من أقاربهم ، وعللوا رفضهم بأنه تصرف لا أخلاقي ، فيه ظلم لحياة شاب بريء !

فهل كانت إجاباتك مماثلة !؟

في الحقيقة ومن خلال تلك الأمثلة الخيالية التي تحتوي على جوانب فلسفية عميقة تتعلق بالأخلاق ومدى توافقها مع العدالة ، برزت لدينا مبادئ أخلاقية محددة ..

في المثال الأول وفقا لإجابة الغالبية برز مبدأ إن التصرف الأخلاقي يعتمد على النتائج المترتبة عليه ، وعللوا إجابتهم منطقيا وأخلاقيا بالنتيجة ، بحيث إن حياة خمسة من البشر لها أولوية على حياة الإنسان الواحد ، ذلك التعليل الأخلاقي المحكوم بالنتائج يضع الأخلاقيات ضمن إطار النتائج المترتبة على التصرف ..

ولكن في المثال الثاني وجدنا أن ذلك التعليل الأخلاقي المرتبط بالنتائج لم يكن كافيا للموافقة على انتزاع أعضاء الشاب لإنقاذ حياة الخمسة الآخرين ، رغم إن النتيجة واحدة ، حياة عدد أكبر من البشر بمقابل التضحية بحياة عدد أقل !
وبرز لدينا مبدأ أخلاقي مختلف لا يعتمد على نتيجة التصرف ، بل على قيمته الذاتية بمعزل عن النتائج المترتبة عليه ، حتى لو كانت تلك النتيجة تنقذ خمسة أشخاص وتضحي بحياة واحد فالتصرف بحد ذاته غير أخلاقي ، وفيه ظلم لشخص بريء ..

ذلك التعليل الأخلاقي المطلق يضع التصرفات الأخلاقية ضمن إطار متطلبات أخلاقية مطلقة محددة ، ضمن واجبات وحقوق مطلقة محددة بغض النظر عن النتائج ..


وفي الحقيقة ذلك الفرق بين طريقة التفكير وإعطاء قيمة للمبادئ الأخلاقية المرتبطة بالعواقب ، وبين طريقة التفكير وإعطاء قيمة للمبادئ الأخلاقية المطلقة لذاتها محل إثارة وجدل من الناحية الفلسفية ..

وأبرز الأمثلة تأثيرا بالنسبة للتعليل أو التبرير الأخلاقي المرتبط بالنتائج هو مذهب النفعية الذي أوجده "جيرمي بنثام" الفيلسوف السياسي الانجليزي الذي عاش في القرن الثامن عشر ..
يقابله أهم فيلسوف تأثيرا بالنسبة للتعليل أو التبرير الأخلاقي المطلق وقيمة التصرف لذاته بغض النظر عن نتائجه "ايمانويل كانت" الألماني الذي عاش أيضا في القرن الثامن عشر ..

وهما مؤثران ليومنا هذا بتعليلاتهما وتبريراتهما الأخلاقية ويعتبران الأبرز بهذا المجال مع وجود توجهات أخلاقية أخرى بشكل أضعف وأقل تأثيرا على تقييم المبادئ الأخلاقية ..


وتبرز أهمية دراسة الأطروحات الأخلاقية وقراءتها نظراً لعلاقتها الوثيقة بالجدليات السياسية والقانونية المعاصرة ، وما تثيره من أسئلة فلسفية حول الواجبات والحقوق والحريات بالإضافة لقضايا المساواة والتفاوت وحرية التعبير مقابل خطاب الكراهية ، وكذلك حقوق المثليين وغيرها من قضايا تتعلق بتحقيق العدالة والتقدم بالحالة الإنسانية ..


أعتقد أن كثيرا من الاعتقادات والمعارف والأخلاقيات التي ورثناها أو تعلمناها وأصبحت من المسلمات لدينا بحاجة إلى إعادة نظر فيها بطريقة جديدة والتعرف عليها بشكل مغاير ، وهذا ما شعرت به حين طرحت تلك الأمثلة بما فيها من جانب فلسفي وأخلاقي على إحدى المجموعات ووردتني إجابات بدهية في بادئ الأمر ، ولكن سرعان ما وجدنا خللاً ما في ما كنا نعتقده أو نظنه أنه التصرف الأخلاقي العادل الذي يتناسب مع مبادئنا !