السبت، 21 يناير 2017

حقوقيو الغفلة !

يحصر الحرية بمواجهة السلطة السياسية فقط ، وإذا حدثته عن السلطة الاجتماعية أو الدينية أو الثقافية واستبدادها يقول إنه لا وجود لذلك التسلط في مجتمعنا ..
وحين تقول له إن المجتمع آذى من اختلف عنه حين عبر عن ذلك الاختلاف !

يقول أولئك قلة وهم من وضعوا أنفسهم بمواقع الشبهات ، فلا يمكنك أن تنزعج اجتماعيا إلا في حال استفزازك للمجتمع أو خروجك عنه وعن عاداته وأعرافه وتقاليده وقيمه الثابتة ، كل من يراعي المجتمع يعيش بحرية وسلام ولا يتأذى ولا .. إلخ ، فعليهم أن ينضجوا ويكفوا عن الشكوى والصراخ والمطالبات الطفولية ..
كما إن المجتمع لا يسجن ولا يحبس ، وما أحلى الرفض الاجتماعي بالمقارنة مع ذلك ، فأنت لم تجرب !

ولكن بالمقابل وحسب ذلك المنطق الأعوج :
السلطة السياسية كذلك لم تعتقل إلا قلة بالمقارنة مع مجموع الشعب ، وهم لولا إنهم وضعوا أنفسهم بمواقع الشبهات واستفزازهم للسلطات وخروجهم عن اعتباراتها وأدبياتها لما سجنوا ، ومن يراعِ السلطة السياسية يعش بحرية وسلام ولا يمس بأذى ولا .. إلخ ، وعليهم أن ينضجوا ويكفوا عن الشكوى والصراخ والمطالبات الطفولية .
سياسيا قد تكون في السجن لكن حياتك في أمان ، وقد تنسج من خلال السجن علاقات مختلفة وتتعلم تجارب جديدة بالإضافة إلى التعاطف خارجه ، وقد يكون ذلك أخف وطأ مقارنة بالنبذ والتسقيط والتشويه حتى من أقرب الناس إليك ، وكل الضرر النفسي والمعنوي وحتى المادي الذي يلحق بك لمجرد اختلافك وتعبيرك عن ذلك الاختلاف ، فأنت لم تجرب ذلك !

من يقبل بالحالة الأولى حتى لو لم يشارك بها ويرفض الثانية فهو ازدواجي ومتناقض ، وإذا شارك بالأولى فهو أحمق ساذج أو خبيث غادر حتى لو رفض الثانية ..

شخصيا أرفض الحالتين ومع الحرية والحقوق كمبادئ أساسية ، وقد يكون الفرق إني أعتبر الحقوق والحريات الفردية في المجتمع هي أساس تكوين الحقوق والحريات السياسية وليس العكس ، لأنه لولا الأولى لا يمكن للثانية أن تتحقق مهما تبدلت الشخصيات أو تغيرت الحكومات ، لأن التسلط والاستبداد في عقولنا وشخصياتنا وثقافتنا وتربيتنا ومجتمعاتنا قبل أي شيء آخر ، وأكثر تعقيدا من اعتقال هذا أو حبس ذاك ..

لا يمكن الوثوق بمن يتحدث باسم الحقوق والحريات والأخلاق  .. إلخ ، وهو أول من ينتهك كل ذلك بمجرد حصوله على الفرصة ضد خصومه !

كلامي مقصود وموجه لفئة محددة تعيش بيننا وترفع شعارات العدالة والحرية وهي لا تقل استبدادا وتسلطا في عقولها وشخصياتها ، وأقول لهم :
كفاكم انتفاخا وفوقية وعنجهية وغطرسة ومزايدة فارغة على الآخرين ، أنتم تحصرون الحرية والحقوق بحدود ضيقة على مقاسكم وتنتهكون مبادئها ، وتمجدون تشوهات اجتماعية بشعارات رنانة وكاذبة لا تعكس حقيقة مواقفكم العوجاء !

الأحد، 15 يناير 2017

بين العدالة والأخلاق

ماذا لو طرح عليك المثال الفلسفي الكلاسيكي المتعلق بالأخلاق والعدالة !؟
 حيث يحملك الخيال إلى إنك طبيب في غرفة الطوارئ بأحد المستشفيات وأدخلوا عليك ستة أشخاص مصابين بحادث سير مروع ، إصابة خمسة منهم متوسطة والسادس إصابته خطيرة وقد تحتاج إلى اليوم بأكمله للعناية به ، ولكن بتلك الحالة سيموت الخمسة ، أو يمكنك معالجة أولئك الخمسة ولكن أثناء ذلك سيموت السادس صاحب الإصابة الخطيرة ..
هل ستنقذ الخمسة وتضحي بالسادس ؟
أم إنك ستنقذ المصاب صاحب الحالة الأخطر ؟

عرض ذلك المثال على مجموعة من الطلاب في جامعة هارفرد في مقرر العدالة ، وأجاب الغالبية العظمى بأنهم سوف ينقذون الخمسة ويضحون بالواحد ، وعللوا إجابتهم بأن التضحية بحياة واحد مقابل إنقاذ حياة خمسة أشخاص عمل أكثر أخلاقية وعدالة !

تم تعديل المثال الافتراضي على إنك طبيب جراح متخصص بزراعة الأعضاء ، ولديك خمسة مرضى جميعهم بحاجة ماسة إلى زراعة عضو من أجل البقاء على قيد الحياة ، الأول بحاجة إلى قلب والثاني بحاجة إلى رئة والثالث يحتاج كلية والرابع يحتاج كبداً وأما الخامس بحاجة إلى بنكرياس ، وليس لديك أي متبرعين بأعضائهم ، وبهذه الحالة أنت على وشك أن تراهم يموتون أمامك واحداً تلو الآخر !

ولكن تتذكر أن في الغرفة المجاورة شاباً سليماً معافى وبصحة جيدة جاء لعمل فحوصات طبية روتينية ، ويأخذ قسطا من الراحة ، ويمكنك تخديره بهدوء وأخذه لانتزاع الأعضاء الخمسة منه لتزرعها بأولئك المحتاجين ، صحيح إن الشاب سيموت ولكنك ستنقذ حياة خمسة أشخاص آخرين بالمقابل ..
فهل ستقوم بفعل ذلك ؟
إذا كانت إجابتك نعم ، فهل ستبقى موافقا حتى لو كان ذلك الشاب هو أحد أقاربك ؟
تلك المجموعة من الطلاب أنفسهم الذين أجابوا في المثال الأول إنهم سيضحون بحياة واحد لإنقاذ حياة خمسة آخرين ، رفضوا التضحية بحياة الشاب في المثال الثاني لإنقاذ حياة الخمسة حتى لو لم يكن من أقاربهم ، وعللوا رفضهم بأنه تصرف لا أخلاقي ، فيه ظلم لحياة شاب بريء !

فهل كانت إجاباتك مماثلة !؟

في الحقيقة ومن خلال تلك الأمثلة الخيالية التي تحتوي على جوانب فلسفية عميقة تتعلق بالأخلاق ومدى توافقها مع العدالة ، برزت لدينا مبادئ أخلاقية محددة ..

في المثال الأول وفقا لإجابة الغالبية برز مبدأ إن التصرف الأخلاقي يعتمد على النتائج المترتبة عليه ، وعللوا إجابتهم منطقيا وأخلاقيا بالنتيجة ، بحيث إن حياة خمسة من البشر لها أولوية على حياة الإنسان الواحد ، ذلك التعليل الأخلاقي المحكوم بالنتائج يضع الأخلاقيات ضمن إطار النتائج المترتبة على التصرف ..

ولكن في المثال الثاني وجدنا أن ذلك التعليل الأخلاقي المرتبط بالنتائج لم يكن كافيا للموافقة على انتزاع أعضاء الشاب لإنقاذ حياة الخمسة الآخرين ، رغم إن النتيجة واحدة ، حياة عدد أكبر من البشر بمقابل التضحية بحياة عدد أقل !
وبرز لدينا مبدأ أخلاقي مختلف لا يعتمد على نتيجة التصرف ، بل على قيمته الذاتية بمعزل عن النتائج المترتبة عليه ، حتى لو كانت تلك النتيجة تنقذ خمسة أشخاص وتضحي بحياة واحد فالتصرف بحد ذاته غير أخلاقي ، وفيه ظلم لشخص بريء ..

ذلك التعليل الأخلاقي المطلق يضع التصرفات الأخلاقية ضمن إطار متطلبات أخلاقية مطلقة محددة ، ضمن واجبات وحقوق مطلقة محددة بغض النظر عن النتائج ..


وفي الحقيقة ذلك الفرق بين طريقة التفكير وإعطاء قيمة للمبادئ الأخلاقية المرتبطة بالعواقب ، وبين طريقة التفكير وإعطاء قيمة للمبادئ الأخلاقية المطلقة لذاتها محل إثارة وجدل من الناحية الفلسفية ..

وأبرز الأمثلة تأثيرا بالنسبة للتعليل أو التبرير الأخلاقي المرتبط بالنتائج هو مذهب النفعية الذي أوجده "جيرمي بنثام" الفيلسوف السياسي الانجليزي الذي عاش في القرن الثامن عشر ..
يقابله أهم فيلسوف تأثيرا بالنسبة للتعليل أو التبرير الأخلاقي المطلق وقيمة التصرف لذاته بغض النظر عن نتائجه "ايمانويل كانت" الألماني الذي عاش أيضا في القرن الثامن عشر ..

وهما مؤثران ليومنا هذا بتعليلاتهما وتبريراتهما الأخلاقية ويعتبران الأبرز بهذا المجال مع وجود توجهات أخلاقية أخرى بشكل أضعف وأقل تأثيرا على تقييم المبادئ الأخلاقية ..


وتبرز أهمية دراسة الأطروحات الأخلاقية وقراءتها نظراً لعلاقتها الوثيقة بالجدليات السياسية والقانونية المعاصرة ، وما تثيره من أسئلة فلسفية حول الواجبات والحقوق والحريات بالإضافة لقضايا المساواة والتفاوت وحرية التعبير مقابل خطاب الكراهية ، وكذلك حقوق المثليين وغيرها من قضايا تتعلق بتحقيق العدالة والتقدم بالحالة الإنسانية ..


أعتقد أن كثيرا من الاعتقادات والمعارف والأخلاقيات التي ورثناها أو تعلمناها وأصبحت من المسلمات لدينا بحاجة إلى إعادة نظر فيها بطريقة جديدة والتعرف عليها بشكل مغاير ، وهذا ما شعرت به حين طرحت تلك الأمثلة بما فيها من جانب فلسفي وأخلاقي على إحدى المجموعات ووردتني إجابات بدهية في بادئ الأمر ، ولكن سرعان ما وجدنا خللاً ما في ما كنا نعتقده أو نظنه أنه التصرف الأخلاقي العادل الذي يتناسب مع مبادئنا !