ليس عجيبا أن يخرج غوغائيٌ من هنا أو هناك مدافعا عن التحريض ولا يفرق بين التطرف والتسامح إلا بمعيار الطائفية ..
لكن العجيب أن يكون ذلك ممن يحسب نفسه مثقفا كبيرا وتنويريا كاملا ومناضلا سياسيا بطلا !
ليمارس استبداده الثقافي حراسةً للجهل والتحريض والتطرف والغلو ومصادرة العقول ، معايراً هذا ومستنقصا ذاك ..
بتصوري بُلينا بقوم يحسبون مواقفهم السياسية المعارضة معيارا وشرطا للفكر والثقافة والتنوير ! بغض النظر عن حماقاتهم وتجاربهم الفاشلة ، فهم الحقيقة وهم المعيار ..
ينقدون الاستبداد السياسي وهم يمارسونه بمعارضتهم السياسية ، فإما تتبنى موقف المعارضة الذي يتبنونه ، أو إنك صبي صغير ناقص وأبله ، لا سيما آنك لم تطبق الرؤية "المقدسة" لادوارد سعيد بأن من وظائف المثقف إزعاج السلطات !
لا أدري كيف يعتبرون المطالبة بالحقوق و السعي نحو الازدهار لا يكون إلا بمعارضة سياسية يسارية لا تخلو من حماقة !؟
العمل متنوع وأشكال التأثير والمطالبة مختلفة ، وذلك من بدهيات الفهم اللازم لطبيعة سير الحياة ، والحسم في القضايا الجدلية لا يكون إلا من المتعنتين والمتنمرين فكريا ..
فإذا كان من حقك أن تعارض ، لمَ لا يحق لغيرك أن يؤيد !؟ وإذا كنت لا تقبل اعتبار المعارضة عمالة وخيانة للوطن ، فلمَ تعتبر التأييد نقيضا للحقوق والحريات ومرادفا للتطبيل والانبطاح !؟
الأوليات والرؤى تختلف وذلك طبعي ، هناك من يرى علتنا الكبرى بالاستبداد السياسي والحلول تبدأ من السياسي وكل مشاكلنا يتحمل مسؤوليتها السياسي !
وتلك رؤية ليست بالجديدة على مستوى العالم ، وقادها مثقفون بعالمنا العربي من القرن الماضي ، ونجحوا بإزالة أنظمة مستبدة طالما اعتبروها العلة الكبرى ، لكنهم فشلوا بمعالجة مشاكلهم كما كانوا يحلمون أو يتوهمون ، فرحل استبداد سياسي وجاء استبداد سياسي آخر ..
لأن أساس الاستبداد ليس بالسياسية ؛ أو هكذا يتبنى آخرون !
بل في عقولنا الفردية والاجتماعية المستبدة ، التي تنتظر الفرصة لتطلق العنان لاستبدادها وتسلطها وفوقيتها ..
الاستبداد الاجتماعي هو الذي يفرز لنا الاستبداد السياسي وليس العكس ..
نحن مجتمعات وعقليات مستبدة لا تفهم ولا تعي معنى العدالة ، والأعجب إننا شوّهنا العدالة وأصبحنا نمارس الاستبداد الاجتماعي باسم العدالة !
وبعدما اعتدنا على وجود حراس الدين والفضيلة والأخلاق ، أفرزنا من خلال عقولنا المستبدة حراسا بنوعية جديدة لحراسة الثقافة والتنوير والحقوق بكل فوقية وعنجهية وغطرسة ، وكل واحد منهم مستبد على قده !
أولئك لا يمكن الوثوق بهم مهما تحدثوا باسم الحرية والحقوق والعدالة وأدانوا الاستبداد والتسلط والتعسف ، لأنهم ليس بأفضل حال !
بل قد يكونوا أسوأ ، فهم بلا سلطة حقيقية ومستبدون ، فكيف يصل بهم الأمر لو كانت كلمتهم آمرة وناهية !؟
أسهل ما يمكن القيام به أن نرمي مسؤولية تخلفنا وفسادنا واستبدادنا على السياسي ١٠٠٪ ، والتظاهر بأننا مجتمع فاضل وقويم لولا ذلك السياسي الذي أفسدنا !
لكن تلك الكذبة لن تغير من واقعنا شيئا يذكر ، سنبقى ننتج الاستبداد والفساد على جميع المستويات ، وسنبقى مجتمعات متخلفة وحمقاء وغير محصنة و يمكن لأي قوة سياسية واستكبارية استغلال حماقاتها وثغراتها لصالح مشاريعها و طغيانها ..
أعتقد أن مشكلتنا فكرية ثقافية اجتماعية قبل أن تكون سياسية ، وحين نكون مجتمعات تطبق العدالة والحرية على المستوى الفكري والاجتماعي والفردي ، ونتخلص من استبدادنا وتخلفنا تجاه الاختلاف والتنوع بكل مستوياته ، ونقدر الإنسان بعيدا عن مظهره وفكره وميوله وقناعاته و .. الخ ، سنكون مجتمعات حرة ومحصنة ضد أي استغلال أو استبداد ، وسيكون الإصلاح السياسي تحصيل حاصل !