رغم الرَّحيل والغياب، إلا أنّك باقٍ في دواخلنا، ولا زالت كلماتك ترنّ في عقولنا. وبعد أربعة أعوام، اكتشفت الكثير من خلالك، ولا زلت يوماً بعد يوم أكتشف المزيد.
لقد أشرت إلى الطّريق ـ وطريقك لم يكن كغيرك، طريق الإيمان المسبق الموروث أو الشخصي ـ وقد كان طريق العقل والتأمّل، كانت لك محطّات وصول في هذا الطّريق، رأيت أهميتها والتوقّف عندها، ومع ذلك، لم تلزم أحداً بمحطّاتك، بل كنت تدعو إلى عدم التوقّف في هذه المحطة أو تلك لمجرّد أنك توقفت بها، ما لم تكن وقفاتنا عن تعقل وقناعة. ولأننا مسؤولون أمام الله، أكَّدت لنا أن وحده العقل حجة الله علينا، لذلك كنت تقول: "عقل الآخرين ليس حجّة لك أمام الله، بل عقلك هو الحجّة الّتي يمكن أن تقدّمها بين يدي الله، ويمكن أن يطالبك الله بها، ولذلك أعطى الله المنهج في قوله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}، فالله تعالى لا يريد لك أن تبني فكرك على التقليد، فلا يكن فكرك فكر الاستهلاك، بل فكر الإنتاج وفكر الإبداع".
فكم كانت كلماتك تحمل في دلالاتها الكثير من العمق والتحفيز على إعمال العقل! لم تكن يوماً ممن يخاف من عقول الآخرين، ولم تؤسّس لكلّ من كان يسمعك أو يتأثر فيك، لعقدة الخوف من العقل، لأنك كنت تثق بأن العقل هو الطريق إلى الله، فلم تدعُ يوماً إلى تقديس الأشخاص وتعطيل العقول أمامهم، أيّا كانواً، وقد كنت تأنس بمشاركتك التفكير، بدلاً من تلقينك لفكرك دون مناقشة أو حوار، وكيف لا وقد كنت تردّد: "أيها الأحبة؛ أحبّ أن تفكّروا معي، لا أن تستمعوا إليّ فقط، لأني كما عوّدتكم، لا أستهلك الكلام معكم، أريد أن أفكّر وتفكّروا، لأني أريد لكم أن ترتفعوا إلى المستوى الّذي يريدنا الله أن نرتفع إليه من الوعي، رسالتي معكم هي رسالة الوعي".
نعم، نفتقد تلك الرّحابة اليوم، كنت عقلاً يتسع لجميع التساؤلات، وقلباً يتّسع لجميع أشكال الاختلاف، لم ترهب أحداً ردّاً على تساؤل، ولم تكفّر أو تضلّل أحداً كردّ فعل على الاختلاف، لم يكن هدفك إلزام الآخرين بفكرك، بقدر عملك على زرع الوعي الإنساني، وتحرير العقول، والتخلّص من كلّ ما يدعو إلى الجهل أو التخلّف، فكنت صاحب قوّة فكريّة وعقليّة ترقى عن النّزول إلى مستوى رفض المختلف أو إرهابه، ليبقى تساؤلك الواعي بلا إجابة لدى الكثير من مرضى اليوم، المصابين بعقدة الاختلاف، وكان تساؤلك: "إذا اعتبرت أنّك إنسان تفهم الواقع جيّداً، فلماذا تسبّ وتشتم وتعادي وتحقد وتدمّر الّذي يختلف معك؟!". وتضيف في موضع آخر: "إنّ الإنسان الّذي لا يسمح لنفسه بالانفتاح على الآخرين، هو إنسان ضعيف الحجّة في رحاب الفكرة". كنت تسعى لكسر هالة القداسة في الحوار، فعلّمتنا أن لا مقدّسات في الحوار، بقولك: "إنّ الله علَّمنا أن نحاور كلّ الناس، ولا توجد مقدّسات في الحوار، فقد حاور الله تعالى إبليس، فهل هناك من النّاس من هو مثل إبليس؟"، محذّراً بشكل دائم من مستنقع التعصّب الذي بطبيعته يصادر العقل ويعزّز الجهل: "المتعصب إنسان أعمى لا يفكّر فيما يلتزم به من موقع عقل وعلم". ومع ذلك، كنت تشير إلى الوقوع في الخطأ، وأنّ المشكلة ليست بالخطأ نفسه، بل بكيفيّة التعامل معه، من خلال تحذيرك الواعي: "لا تكن من الناس الذين يحاولون الدفاع عن أخطائهم، لتكن عندنا شجاعة الاعتراف بالخطأ عندما تخطئ، وشجاعة التواضع أمام الصّواب عندما نصيب".
سيّدي محمد حسين فضل الله، لا زال هناك من يهاجم العقول لمجرّد أنها فكّرت بشكل مختلف، ويرهب الأشخاص لمجرّد أنهم عبّروا عن اختلافهم، لا زلنا نقبع بجهل بعيد عن كلّ ما يحمله فكرك من وعي نحتاجه اليوم ونفتقده. لا يمكنني أن أقارنك بغيرك من رجال الدّين، لأنّ المقارنة ظالمة، فأنت حالة استثنائيّة خاصّة وفريدة، أنت إنسان أوسع من رجل دين، وفكر أكبر وأعمق من مرجعيّة فقهيّة، وشخصية حياتها بعمر الزمن، تعيش للمستقبل، وتحيا في أصالة التاريخ القادم.
استطعت الجمع بين العقلانية والمحبّة في التعاطي مع الكلّ، وأسَّست لثقافة الإنسانيّة في وسط لا زال يعيش بعيداً عنها، لم تسعَ لفرض أفكارك بالإكراه، بقدر العمل على التأسيس لآليّة فكريّة ذات منهجية عقلانية، كنت تعلم أنّ الإنسانية هي العقل، وأنَّ العقل هو الإنسانيّة، تنبّأت بهجمات التخلّف من خلال معرفتك العميقة بواقع مجتمعاتنا، وحذّرت منها بقولك: "إنّي أطلب من أبنائي وبناتي وأحبّائي من هذا الجيل الشّابّ، أن يتابعوا خطّ الوعي، وأن لا يسقطوا تحت تأثير هجمات التخلّف، فالوعي سوف ينتصر ولو بعد حين"، موضحاً في موقع آخر: "لا تستضعف نفسك؛ بل حاول أن تكون قوياً، فليس هناك إنسان ربّاً لإنسان"، مؤكّداً في الوقت ذاته أنه سيبقى هناك من يرفض التّفكير ولا يقبله: "بعضنا يخاف أن يفكّر، لأنه إذا فكّر، فقد يتبدّل كلّ كيانه الفكري، ويستوحش من كلّ تاريخ التخلّف الذي عاشه".
أيها السيّد الجليل، قد تأخذنا الأفكار إلى هنا أو هناك، ونمرّ بتحوّلات أو منعطفات فكريّة أو حتى إيمانيّة، لكنك تبقى الروح الحيّة في عقولنا ودواخلنا، تبقى آليّتك الفكريّة منارة تضيء لكلّ تائه أو باحث، تبقى كلماتك مصدراً للإلهام والشجاعة، للتجرّؤ على التفكير خارج الصّندوق، ستبقى أنت الفضل من الله الّذي لا يمكننا إلا الوفاء له والإخلاص لأثره الّذي لا زال ينير عقولنا ويطمئن نفوسنا.
*ملاحظة : المقال من الذكرى الرابعة لرحيل السيد ، أعيد نشره بمناسبة الذكرى الخامسة وليتم أرشفته بالمدونة ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق