الأحد، 15 يناير 2017

بين العدالة والأخلاق

ماذا لو طرح عليك المثال الفلسفي الكلاسيكي المتعلق بالأخلاق والعدالة !؟
 حيث يحملك الخيال إلى إنك طبيب في غرفة الطوارئ بأحد المستشفيات وأدخلوا عليك ستة أشخاص مصابين بحادث سير مروع ، إصابة خمسة منهم متوسطة والسادس إصابته خطيرة وقد تحتاج إلى اليوم بأكمله للعناية به ، ولكن بتلك الحالة سيموت الخمسة ، أو يمكنك معالجة أولئك الخمسة ولكن أثناء ذلك سيموت السادس صاحب الإصابة الخطيرة ..
هل ستنقذ الخمسة وتضحي بالسادس ؟
أم إنك ستنقذ المصاب صاحب الحالة الأخطر ؟

عرض ذلك المثال على مجموعة من الطلاب في جامعة هارفرد في مقرر العدالة ، وأجاب الغالبية العظمى بأنهم سوف ينقذون الخمسة ويضحون بالواحد ، وعللوا إجابتهم بأن التضحية بحياة واحد مقابل إنقاذ حياة خمسة أشخاص عمل أكثر أخلاقية وعدالة !

تم تعديل المثال الافتراضي على إنك طبيب جراح متخصص بزراعة الأعضاء ، ولديك خمسة مرضى جميعهم بحاجة ماسة إلى زراعة عضو من أجل البقاء على قيد الحياة ، الأول بحاجة إلى قلب والثاني بحاجة إلى رئة والثالث يحتاج كلية والرابع يحتاج كبداً وأما الخامس بحاجة إلى بنكرياس ، وليس لديك أي متبرعين بأعضائهم ، وبهذه الحالة أنت على وشك أن تراهم يموتون أمامك واحداً تلو الآخر !

ولكن تتذكر أن في الغرفة المجاورة شاباً سليماً معافى وبصحة جيدة جاء لعمل فحوصات طبية روتينية ، ويأخذ قسطا من الراحة ، ويمكنك تخديره بهدوء وأخذه لانتزاع الأعضاء الخمسة منه لتزرعها بأولئك المحتاجين ، صحيح إن الشاب سيموت ولكنك ستنقذ حياة خمسة أشخاص آخرين بالمقابل ..
فهل ستقوم بفعل ذلك ؟
إذا كانت إجابتك نعم ، فهل ستبقى موافقا حتى لو كان ذلك الشاب هو أحد أقاربك ؟
تلك المجموعة من الطلاب أنفسهم الذين أجابوا في المثال الأول إنهم سيضحون بحياة واحد لإنقاذ حياة خمسة آخرين ، رفضوا التضحية بحياة الشاب في المثال الثاني لإنقاذ حياة الخمسة حتى لو لم يكن من أقاربهم ، وعللوا رفضهم بأنه تصرف لا أخلاقي ، فيه ظلم لحياة شاب بريء !

فهل كانت إجاباتك مماثلة !؟

في الحقيقة ومن خلال تلك الأمثلة الخيالية التي تحتوي على جوانب فلسفية عميقة تتعلق بالأخلاق ومدى توافقها مع العدالة ، برزت لدينا مبادئ أخلاقية محددة ..

في المثال الأول وفقا لإجابة الغالبية برز مبدأ إن التصرف الأخلاقي يعتمد على النتائج المترتبة عليه ، وعللوا إجابتهم منطقيا وأخلاقيا بالنتيجة ، بحيث إن حياة خمسة من البشر لها أولوية على حياة الإنسان الواحد ، ذلك التعليل الأخلاقي المحكوم بالنتائج يضع الأخلاقيات ضمن إطار النتائج المترتبة على التصرف ..

ولكن في المثال الثاني وجدنا أن ذلك التعليل الأخلاقي المرتبط بالنتائج لم يكن كافيا للموافقة على انتزاع أعضاء الشاب لإنقاذ حياة الخمسة الآخرين ، رغم إن النتيجة واحدة ، حياة عدد أكبر من البشر بمقابل التضحية بحياة عدد أقل !
وبرز لدينا مبدأ أخلاقي مختلف لا يعتمد على نتيجة التصرف ، بل على قيمته الذاتية بمعزل عن النتائج المترتبة عليه ، حتى لو كانت تلك النتيجة تنقذ خمسة أشخاص وتضحي بحياة واحد فالتصرف بحد ذاته غير أخلاقي ، وفيه ظلم لشخص بريء ..

ذلك التعليل الأخلاقي المطلق يضع التصرفات الأخلاقية ضمن إطار متطلبات أخلاقية مطلقة محددة ، ضمن واجبات وحقوق مطلقة محددة بغض النظر عن النتائج ..


وفي الحقيقة ذلك الفرق بين طريقة التفكير وإعطاء قيمة للمبادئ الأخلاقية المرتبطة بالعواقب ، وبين طريقة التفكير وإعطاء قيمة للمبادئ الأخلاقية المطلقة لذاتها محل إثارة وجدل من الناحية الفلسفية ..

وأبرز الأمثلة تأثيرا بالنسبة للتعليل أو التبرير الأخلاقي المرتبط بالنتائج هو مذهب النفعية الذي أوجده "جيرمي بنثام" الفيلسوف السياسي الانجليزي الذي عاش في القرن الثامن عشر ..
يقابله أهم فيلسوف تأثيرا بالنسبة للتعليل أو التبرير الأخلاقي المطلق وقيمة التصرف لذاته بغض النظر عن نتائجه "ايمانويل كانت" الألماني الذي عاش أيضا في القرن الثامن عشر ..

وهما مؤثران ليومنا هذا بتعليلاتهما وتبريراتهما الأخلاقية ويعتبران الأبرز بهذا المجال مع وجود توجهات أخلاقية أخرى بشكل أضعف وأقل تأثيرا على تقييم المبادئ الأخلاقية ..


وتبرز أهمية دراسة الأطروحات الأخلاقية وقراءتها نظراً لعلاقتها الوثيقة بالجدليات السياسية والقانونية المعاصرة ، وما تثيره من أسئلة فلسفية حول الواجبات والحقوق والحريات بالإضافة لقضايا المساواة والتفاوت وحرية التعبير مقابل خطاب الكراهية ، وكذلك حقوق المثليين وغيرها من قضايا تتعلق بتحقيق العدالة والتقدم بالحالة الإنسانية ..


أعتقد أن كثيرا من الاعتقادات والمعارف والأخلاقيات التي ورثناها أو تعلمناها وأصبحت من المسلمات لدينا بحاجة إلى إعادة نظر فيها بطريقة جديدة والتعرف عليها بشكل مغاير ، وهذا ما شعرت به حين طرحت تلك الأمثلة بما فيها من جانب فلسفي وأخلاقي على إحدى المجموعات ووردتني إجابات بدهية في بادئ الأمر ، ولكن سرعان ما وجدنا خللاً ما في ما كنا نعتقده أو نظنه أنه التصرف الأخلاقي العادل الذي يتناسب مع مبادئنا !

هناك تعليقان (2):

  1. مرحبا طارق انا ابتسام طبيبه
    اولا أحييك على المقال الجميل
    ثانيا أود تصحيح مفهوم طبي بسيط لااعلم أن كان له أثر في تغيير الفكره لهذا المقال .
    الأطباء في المثال الأول يقومون بإنقاذ أصحاب الاصابه المتوسطه قبل اصحاب الاصابه الخطيرة بناء على نسبه النجاه .وليس بناء على الأكثرية وهذا شيء يعمل به الأطباء الآن في كل مكان ..على الطبيب إنقاذ أصحاب الاصابه المتوسطه اولا لأن نسبه نجاتهم عاليه وبالتالي لايمكن التفريط بحياتهم مقابل أصحاب الاصابه الخطيرة الذين قد تكون نسبه نجاتهم أقل من 1% حتى مع كل الإسعافات التي قد تقدم إليهم.في المثال الثاني ليس أخلاقيا أن نقوم بقتل شخص حي معافى وسرقة أعضاؤه لإنقاذ 5 بحاجه الى نقل الأعضاء لأن الطبيب وظيفته الاساسيه المحافظه على الحياه. الموضوع غير متعلق أبدا باالأكثريه.وشكرا جزيلا

    ردحذف
    الردود
    1. أهلا دكتورة ابتسام ..
      وتعليقا على المثال الأول فإن نسبة النجاة ١٠٠٪‏ للشخص المصاب بشكل أخطر في حال تفرغ له الطبيب حسب الافتراض ..
      ومن جهة أخرى ، فإن هذه الأمثلة هي أمثلة كلاسيكية شهيرة لملامسة التعليل الأخلاقي للتصرف ، وهي خيالية ولا يتم طرحها من ناحية طبية ..
      لذلك الهدف منها هو الجانب الفلسفي ، وتشابهها أمثلة أخرى لا علاقة لها بالطب مثل مثال سكة الحديد وتغيير مسارها ..

      لكن أشكرك لتفاعلك الجميل وإضافتك الثرية مع كل التحية

      حذف