الاثنين، 25 أغسطس 2014

ماذا لو قدسنا البقر !

أتخيل سيمنع نقدها وتوجيه أي لوم لها ، وسيحتفى بها ويتم تبجيلها ، ستصبح رمزا من أهم رموزنا المنزهة ، لن يقال اسم البقرة حاف ، سيقرن بأكثر العبارات تعظيما واجلالا ، ونقيم لأجلها المناسبات والطقوس ، ونحيي في سبيل خدمتها العادات والتقاليد ، ستزخر مجالسنا في الحديث عن كراماتها من الله ، ومعاجزها التي لا تصدق ، لولا قداستها وقدراتها الخارقة وولايتها على هذا الكون ، وذلك بإذن الله الذي جعلها لنا حجة من حججه على هذه الأرض ، ولن يسمح لكائن من كان أن ينكر مكانتها ، وسيهدد بأشد أنواع العذاب الآخروي ، والدنيوي إن استدعى الأمر ..
وفي حال كانت هناك تساؤلات أو عدم اقتناع وتشكيك بقداستها ، سيواجه بقوة وحزم ، مع التقليل من شأن صاحب هذا التشكيك الآثم ، وتسفيهه وتسخيفه وتهميشه ، وطرح التساؤلات حوله وحول ابتعاده عن أهل الاختصاص بالبقر !
فهو لم يجالسهم بما يكفي لمصادرة عقله ، كما أنه لم يقرأ مئات المؤلفات والمجلدات التي كتبت من أهل الاختصاص والخبرة في تقديس البقر ، لذلك هو يهرف بما لا يعرف !
ليبدأ أهل الاختصاص بالبقرة بـ ليّ وعوج كل الأسس المنطقية في الاستدلال لصالح البقرة !
فيطرحون بعض الأسئلة الاستنكارية : هل تقديس البقرة أمر مستحيل عقلا ؟! أو أنه لا يمكن للبقرة أن تكون خارقة للعادة وتحمل من المزايا والحكمة مالا يمكن حمله لحيوان و بشر ؟! ويصعدون الموضوع مع هذا المشكك ليوهمون الكل بأنه تعدى الله سبحانه ! من خلال تساؤلهم : كيف يجرؤ أحدهم على التشكيك بذلك وهو تشكيك بقدرة الله سبحانه ! الذي لا يعجز عن إعطاء البقرة كل ما يمكن اعطاؤه من خصال عظيمة ومزايا وقدرات ، تسمح بأن تكون كائن مقدس يمكن تسليمه النفس والمال والعقول !
فلا يمكن لأحد من العوام أن يعترض ، فقد أقنعوه بأن المسألة أكبر منه ومن امكانياته العقلية والادراكية ! كما أنه يجهل في علم الأبقار الذي لا يفققه الا الراسخون بالعلم ، الذين قضوا عمرهم بالبحث والدرس في طيات الكتب والمجلدات المعتمدة في مجال تقديس البقر ..
فهم لا ينطقون من مزاج أو هوى ، ولا يعتمدون على ادعاءات ، بل هي براهين عقلية تزرع بالنفس الاطمئنان وتقنع العقول ..
أما عقلك إن لم يقتنع ، فذلك لقصوره وهواه المنحرف ، فلا يمكن القياس عليه ، لأن عقول أهل الاختصاص قد اقتنعت ، وطالما أنها اقتنعت ، فاذن هي مقياس العقل والحكمة والابتعاد عن الهوى !
اللافت بعد ذلك الخيال ، أن في مكان ما وكما هو معلوم ، يوجد نظراء لنا بالانسانية والعقول ، بالفعل يقدسون البقرة ، وهم مقتنعون تمام الاقتناع في ذلك ..
فيا ترى ، هل يفرق مجتمعنا عنهم في طريقة تقديسه لموروثه وأفكاره ومعتقداته وأضرحته ومزاراته وأئمته ؟
قد يكون ، ولكن ماذا لو  كان هذا المجتمع ، الذي نعيش فيه ، واحد من تلك المجتمعات التي تقدس البقر ؟!

مجتمعنا المريض !

كثيرا ما يلجأ مجتمعنا الشيعي الإثني عشري في المنطقة الشرقية إلى الحديث عن الاستبداد السياسي، ويتشكى من مظاهر مصادرة الحريات الدينية والعقائدية لهذا المجتمع ، والتمييز ضده من بعض فئات المجتمع الأكبر، ولن يكون آخرها موجة الغضب التي رافقت توجهات الحكومة بتعيين أول وزير إسماعيلي محسوب على الطائفة الشيعية محمد أبو ساق، أو قبلها مع المركز الحيوي الذي حصلت عليه الدكتورة الشيعية الإثني عشرية لمياء الإبراهيم ..
ومع ذلك فهو لا يخجل من نقد كل تلك الممارسات الإقصائية مع التنظير بالحقوق والحريات ، في الوقت الذي يمارس فيه الإقصاء ومصادرة الحقوق في الداخل ،
فهناك مشكلة حقيقية في هذا المجتمع ، حيث إنه متناقض بين تشدقه بحق الاختلاف وحرية المعتقد والتعبير عنه ، ومصادرته لذلك من أفراده !
ونتيجة لذلك أتصور أن مجتمعنا يفقد الثقة في نفسه ، ويعيش عقدة الاضطهاد والأقلية بشكل مرضي ، مما حوّله لمجتمع ينهى عن الاستبداد ويأتي بمثله ، فهو يصادر حق التفكير وحرية الاختيار والتعبير من أبنائه تارة بدافع المحبة ، التي قد تكون مرضية أو مثالا للظاهرة الاجتماعية "أطلس" والمعروف إنها تؤذي الآخرين وتسلب حرية إرادتهم أو تفكيرهم ، دون أن يشعر صاحبها بذلك ، ظنا منه أنه يصلح أفكار وممارسات الآخرين من باب الخوف والحرص ..
وتارة بشكل حاقد يدفعه لتعمد إلحاق الضرر النفسي والمعنوي ، وأحيانا الجسدي إن استدعى الأمر !
مما جعله يغرق في مغالطات كارثية ، فإن اختلفت معه في اعتقاد ديني ما ، يفترض أنه عليك الصمت تجاه مشاكل المجتمع الدينية طالما أنك لا تتشارك معه في هذا الاعتقاد ، دون الانتباه إلى أن الانتماء الاجتماعي وحده كفيل بالتعليق والنقد على هذه الظواهر الدينية ، التي تلحق الضرر بكل منتمٍ يعيش في هذا المجتمع ، سواء اعتقد بهذه المعتقدات ، أو قرر التخلي عنها ، حيث إن كل فرد بأفكاره ومعتقداته هو جزء ومكون لهذا المجتمع الذي يعيش في وسطه ، ولا يمكن أن يكون حرا دون أن يثق في عقله وذاته وامكانيته، وإن أخطأ ! 
فهذا لا يعطي المبرر للتعدي على حريته واستقلاليته الفردية ، وما توظيف الدين والموروث الاجتماعي العام في التغييب القسري لخيارات الأفراد وفرض نمط فكري وعقائدي وسلوكي أوحد عليهم ، وتكريس ذلك ، لتمكين فئات معينة - عادة يمثلها رجال الدين - من السيطرة على المجتمع وتوجيهه كما تريد ، إلا شكل من أشكال التخلف الاجتماعي القروي الذي يتنافى مع الأسس المدنية التي تكفل للفرد استقلاليته وحريته بالاختيار والتعبير !
فلا يمكن لمجتمع مثل مجتمعنا أن ينعم بالحرية والاستقرار وحق الاختلاف الديني أو الفكري عن المجتمع السعودي الأكبر ، طالما إنه يمارس أشد أنواع الاستبداد ومصادرة حق الاختلاف والتعبير  من أفراده وجماعته ، ويفرض على الفرد عقائد وسلوكيات معينة ، وإلا فهو لا ينتمي لهم ولا يحق له النقد أو التعبير ويجب عدم الاعتراف به أو نبذه ونفيه لمكان ما ، تماما كما يطالب بعض الجهلة بالطرف الأكبر، بطرد الشيعة من المملكة وعدم الاعتراف بهم ونبذهم الى إيران أو أي مكان طالما إنهم مختلفون عنهم !
مجتمعي العزيز، حاول التخلص من القيود والضوابط والموانع التي تحد من الحيوية الفردية ، تحت أي عنوان كانت ، لأنها كفيلة بشل المجتمع ككل ، وحبسه في حالة من الانغلاق السلبي والتقوقع المدمر ، وتذكر أن تعدد الأفكار والمعتقدات والذهنيات وأشكال السلوك في المجتمع حالة صحية تعكس وعيا اجتماعيا وليس عارا أو انفلاتا !
وإن دعم حق الاختلاف وحرية التعبير والاختيار، لا يتطلب اتفاقا بالرأي والتوجهات .. اسمح لأفرادك أن يثقوا بأنفسهم ، وأن يعيشوا تجربتهم الفكرية والتعبيرية بعيوبها وأخطائها ، وحسناتها وصوابيتها ، فـزمن الوصاية قد ولى إلى غير رجعة !

الصنمية بصورتها الحداثية

لا يخفى على مراقب ما تشهده الساحة من حراك فكري ضخم لم يستثنَ منه شيء ، لا سيما الفكر الديني ، نظرا لما يمتلكه الدين من مكانة سلطوية وسيادية على مستوى المجتمع والأفراد..
في ظل ذلك لا سيما في الوسط الشيعي ، نجد مشكلة تصنيم المرجع وتقديسه ، بحيث يعتبر الممثل الحق لإرادة الله في الأرض ، حتى أصبحنا نعبد المرجع - بمعنى الطاعة والخضوع لأوامره - بلا نقاش أو تفكير، بحجة إنه المختص في تمثيل إرادة الله سبحانه ، ليقربنا إلى الله زلفى !
بناءً عليه فالمراجع العظام خارج نطاق المساءلة أو النقد ، وذلك لو حدث فهو جرأة من العامة لا تغتفر ، بينما هناك من يتساءل ، ما الفرق إذن بين ما نعيشه اليوم من تصنيم وتقديس للمرجع ، وما كان من تعامل مع المعبد وكهنته؟! الحجج نفسها والإسطوانة الفارغة تتكرر لمواجهة أي انتقاد، من أنت؟! ومن تكون؟! ناهيك عن شخصنة أي نقد أو رأي ، ومحاولة تصوير المختلف المعبر عن رأيه ؛ كمفرغ لعقده الإجتماعية أو الدينية ”المتخيلة“ من خلال رأيه ، وتصويره على أنه الناقم أو المنتقم !
مما يعكس خلل المجتمع من خلال خياله الواسع والمريض في تعامله مع النقد أو التعبير عن الآراء والإختلاف . بالإضافة لغيرها من المقارنات المستهلكة مع الاختصاصات العلمية الحديثة من طب وهندسة ... إلخ، ومع كل تخصص منهجي يمكن التحقق منه ومن نتائجه ، بمقارنة ساذجة لا تخلو من الفارق والاستغفال الذي ما عاد ينطوي على جميع العقول..
والنتيجة اليوم أصنام بنسخة عصرية، لا تختلف من حيث قداستها والتعامل معها وترتيب الأثر مع سابقاتها عن الأصنام ، فهي مقدسة ومنزهة عن كل عيب أو خلل ، أي ناقد لها فهو بحكم المتطاول والمتعدي والمارق على الدين وأهله ، فالراد عليهم كالراد على الله !
حتى وصل الحال إلى أن نجد مراجع لا تحمل أي مشروع ثقافي أو فكري أو حتى ديني ، ولا حتى تدعيه ، ومع ذلك ؛ فعامة الناس تنسب إليهم ما يمكن نسبه من هنا أو هناك من فكر وحنكة وحكمة ونظر ثاقب !
اللافت أن في أي نقاش أو تبادل للآراء حولذلك ، نجد من يدعي الحياد ليتساءل : لماذا الحديث حول ذلك ؟!
والسؤال الأولى ؛ لماذا لا يكون هناك حديث حول هذا الوضع من التقديس والتصنيم ؟! والسماح للآراء بالطرح طالما أنها لا تعتدي على الأشخاص أو تقلل من احترام إنسانيتهم، وإبداء الرأي هو حول آلية محددة بالتعاطي مع هذه الفئة الإنسانية ، وما لها من أثر على المجتمع وأفراده تصل لحد التيارات والتحزبات وبصورة حروب اجتماعية في بعض الحالات ، وقد شهدناها وعايشناها ولا نحتاج لتخيلها !
هناك من لا يشعر أو يرى وجود لأي مشكلة ، ويعجبه الوضع القائم ويرتضيه ، وهذا من أبسط حقوقه ، ولكن هناك أيضا من يشعر بوجود مشكلة وخلل في هذا الوضع ، ومن حقه أيضا أن يشير لما يراه ويعبر عنه ..
ولنا في قصة النبي إبراهيم الكثير من الإلهام ، حيث إنه رفض كل أشكال التقليد الاجتماعي في الطقوس والتعبد والتصنيم ، ولجأ للتفكر والتأمل ، ولم يراعِ مقدسات مجتمعه أو قومه حين أراد أن يوصل لهم فكرته ، بحيث حطم أصنامهم المقدسة وترك كبيرهم متهمه بالتحطيم ليدعوهم للتفكير، بشكل لا يخلو من السخرية بآلية التصنيم ومعتقداتهم ..
ومع ذلك كان رد قومه مشابه تماما من حيث المبدأ والمضمون لردود حراس الصنمية الحداثية في هذا اليوم ، فالدعوة لحرق كل ناقد بشكل معنوي واجتماعي موجودة ، والتحجيم والاستصغار حاضر ، والتهم بالتعدي وعدم احترام مقدسات ورموز المجتمع هي ذاتها ..
شخصيا مع احترام كل إنسان ، وذلك يشمل شخص المرجع ولزوم تقديره ، وعدم تجاوز حدود الأدب في نقده أو مراجعة مواقفه، كما أن نقد الآلية المرجعية أو رفضها لا يشمل نقد ورفض شخصي لكل مرجع ، فهناك منهم قامات تستحق كل التقدير والإشادة ، وبالمقابل هناك منهم من أخذ مكانة لا يستحقها ، لكن الاحترام والتقدير للشخصيات العظيمة شيء ، والتعامل معها كممثلة لإرادة الله وما يتبعه من تصنيم وتقديس شيء آخر !
فبتصوري إننا نعيش زمن الصنمية من جديد ، ولكن بنسخة حداثية ومدروسة ، يدعمها الكثير من المؤلفات والمجلدات ، يقوم عليها حراس أشاوس فكريا واجتماعيا، يوظفون كل ما يمتلكونه من نفوذ في سبيل حراسة هذه الصنمية وتكريسها ، ومحاربة كل من ينقدها أو يرفضها ، وكل ذلك بعنوان حماية دين الله في الأرض ، فالراد عليهم كالراد على الله ! ولا بد من طاعتهم للتقرب إلى الله زلفى!